أنتَ بلا شعرٍ لسْتَكَ

ربما لم يحدث لك أن قرأت قصيدة واحدة في حياتك، لكن يمكنك الآن أن تلجأ إلى جوجل وتبحث عن أي قصيدة سمعت بها أو أوصاك بها أحد لنزار قباني أو محمود درويش، وقد تعثر على نفسك في القصيدة، على تجربتك الحياتية فيها، على حدث مر بك أو واقعة وقعت لك أو شعور خالجك أو إحساس نفر كعمود ماء في ثنايا النفس ولم تقو على احتوائه والتعبير عنه، عن شعور بالرعب، بالدهشة، بالعجب، بالذهول، بالحزن الشديد أو الفرح الغامر.

هذا ممكن بلا شك.

مرت سنوات طويلة وأنا أكتب الشعر. أمضيت أوقاتاً مديدة وأنا أكتب الشعر. أحياناً، أثناء انكبابي على الورقة أو جلوسي أمام شاشة الحاسوب، ألقي على نفسي سؤال الجدوى. ألست أضيع وقتي فيما لا نفع فيه، ولا طائل وراءه؟ وما نفع الشعر إن لم يكن يستطيع حل مشكلة واحدة من مشاكل العالم الذي يبدو أنه قرر ألا يحل مشكلة من مشاكله.

لكن ما شأن الشعر بمشاكل العالم، ألم يكن العالم هكذا دائماً، حافلاً بالمشاكل؟ أما من شيء ذي نفع وفائدة أخصص له وقتي من اليوم، كأن أذهب للتمرين أو السباحة، أو ألاعب طفلي الذي مل الجلوس في البيت.

لكني مع كل هذه الأسئلة لم أكن لأقلع عن الشعر كما أقلعت عن التدخين. هزمت التدخين، هازم الجبابرة، ولم أهزم الشعر، أمير الوداعة والرقة. لذلك بقيت أكتب الشعر. كتبت الكثير من الشعر في صباي وشبابي، رغم أن الشك فيما أفعل وجدوى ما أفعل ظل قائماً وظل يناوشني كلما جلست لأكتب قصيدة.

تلك كانت أيام الشك.

لكني مررت بأيام بيضاء في علاقتي مع الشعر ونظرتي له. وكان لدي من إجلال الشعر ما يكفي لتحاشي آثار هذه الهواجس السالبة للرغبة في الكتابة. أعلم منذ زمن بعيد أن الشعر العظيم لديه القدرة على إشعال حريق في ثياب الروح. أعلم يمكن للشعر أن يغير الطريقة التي ننظر فيها إلى أنفسنا، يمكنه أن يغير الطريقة التي نرى فيها العالم.

عندما يستحق الشعر اسمه، يستطيع استبطان نفسك، استدعاء أسرارك، استخلاص خبيئة قلبك، وتحطيم أسوار دفاعاتك. يتحداك الشعر العظيم للتخلي عن استراتيجيات الحذر والسلامة، ويدعوك إلى التجريب والدهشة، ويراهنك على متعة الانفلات من ضوابط العقل الحارس.

الشعر فن السحر اللغوي، سطور من الرقى اللغوية التي ألّفها أحدهم معاً ووضعها في مشكاة كوخ لم تعبر به قدم إنسي منذ ملايين السنوات، الشعر أبهى ما يكون حين يكون فتحاً: حين يفتح عينيك ويفتح قلبك ويفتح الباب أمامك، ويدخلك إلى عالم أوسع وأرحب وأفضى على حشد الإمكانيات الهائل الذي لم تحلم به مطلقاً.

هي لحظة تجاهد بكل ما لديك من قدرات كي تلتقط مدهشاتها، لكنك تقر بفشلك، وتسأل نفسك: هل مر كل ذلك الوقت دون أن تعبر العمر غيمة، ثم يهطل مطر السماء دفعة واحدة. ما أنا فاعل بكل هذا المطر؟

من هنا أيضاً تنبع خطورة الشعر وضرورته معاً. لأن قصيدة عظيمة ما لن تتركك تعود إلى ما كنت عليه قبل قراءتها. لن تعود كما كنت قبل أن تفتح تلك المجموعة الشعرية التي قلبت صفحة من صفحاتها من منطلق السأم والملل وملء فراغ ممض بينما مررت صدفة بمكتبة بعد أن لم يبق متجر لم تزره في مركز تسوق، وأنت تزجي الوقت بانتظار موعد مع صديق.

قد يحدث أن سطرين في هذه القصيدة سيحدثانك بلغة تلامس شغاف روحك عن تجربة صاعقة كانت لك منذ سنوات وطوتها طبقات غبار السنوات وانهيارات كتل المسؤوليات. حدث لي ذلك عندما وجدت حياتي في قصائد عظيمة لا أعرف شعراءها ولا عرفوني. تجربة صادقة عشتها ولم أجمعها في كلمات ولا صورتها في صورة، فيما كان أحدهم في مكان ما وزمان ما مختلفين تمام الاختلاف يعيشها أو يتأملها ليأسرها في بيتي شعر عظيمين، ليلتقطها من سماوات الغياب، ويستحضرها على الورق المقدس. أعرفت أروع من ذلك؟

هكذا ستشعر ولسان حالك يقول: لو كنت أستطيع أقول الشعر لقلت هذين البيتين حينما حدث لي ما حدث. إذا وقع ناظراك على قصيدة مثل هذه فلا تفلتها من يديك، هو الشعر يا صديقي. وأينه الشعر في كل هذا الركام اللغوي؟

يخترق الشعر بأصواته وإيقاعاته وموسيقاه وتراكيبه الجديدة عالم العقل الواعي لإيقاظ الخيال على اتساعه، كي يدفعك إلى مشارف الهاوية، لتنظر فيها وتبادلك النظر كما يقول نيتشه، أن تطل على الألم الذي يمزق جسد الأفق على امتداد سبحاتك، أن ترى بأم عينيك ما لم تشاهده على شاشة تلفزيون أو هاتف محمول أو آيباد.

شاشة الشعر ذات دقة عالية لم تعرفها شاشات، ولا توصلت إليها تقنية. الشعر معجزة اللغة الخالدة، وبتقنياته البدائية البسيطة المألوفة يفعل الأفاعيل ويبتدع المستحيل. ادعه باسمه، إنه الشعر، سلطان اللغة والخيال.

لكأنك تسأل: لكن ما عساي واجداً في القصيدة؟ في القصيدة لعلك واجد الخالد في أسمال العابر، الهائل في زي البسيط، المدهش في لبوس العادي واليومي. لولا الشعر، لعبرت الكثير من المدهشات الخوارق وزالت، ولم يلحظ البشر وجودها. في الشعر ترى المعجز العارم والمفاجئ الداهم، في الشعر تجد ما أخطأت سهام الأحلام، وما أعجز ألاعيب السحرة. خفة يد الشعر لم يوهبها حاو.

جدوى القصيدة أنها تحتفي بالمجهول، المجهول الغائر في أعماقنا والغائب بعيداً في أغوار الكون. تأتيك القصيدة من بلاد بعيدة انحرفت عنها سفن كولومبس ولم تدسها حوافر خيول الغزاة والفاتحين. تأخذ القصيدة شكلها بقوة اللغة لتحلق بجناحي الصور والاستعارات.

لا يروق لك القول ولا تتلمس أثره؟ فاسمع إذن.

تخيل عالماً كل ما فيه معلوم معروف. لا شك أنه عالم خال من الحس ميت، لا داعي للأسئلة ولا للعجب ولا للدهشة. ما من شيء يلفت انتباهك وما من إمكانية لإدهاشك. هكذا يبدو العالم أحياناً لي ولك عندما يأخذ الخيال استراحة في القطب الجنوبي من الوجود، حيث لا يعود من الممكن استدعاؤه بسرعة، عندما يأخذ خلوته المنكرة. يعرف ذلك الكتاب والشعراء والفنانون ويعرفون كم هي أن خلوة الخيال هذه قاسية.

إن أصابك السأم والملل من مجريات الحياة، بالخيال الشعري تذهب إلى حيث تشاء.

من أين يأتي الشعر بقدرته هذه؟ من العادي والمألوف والمعروف. من كلامنا اليومي. يأخذ الشعر الكلمات التي تعرفها ويضعها بتسلسل وترتيب قد لا تعرفه، يستنفر قدرة فيك وفيه معاً تفاجئك وتأخذك بعيداً من نطاق الحديث العادي وإيقاع الكلام العادي وعمليات التفكير الخطية المألوفة. ألا تستأسر أيها الكائن العادي لهذا الكائن الأسطوري؟

بذلك يسلط الشعر ضوءه على بقعة في نفسك أو حياتك أو عالمك، وبضوئه هذا يكشف عن جانب غفلت عنه في الحياة، هكذا يندّ سؤال المنذهل: أين كان هذا الجانب خافياً عني؟ الشعر كشّافُ مناطق معتمة.   

كي تعرف للشعر حقه وكي توليه مقامه الذي يستحق لا بد أن تتلقى موهبة التركيز والاهتمام خارج حدود ذاتك وداخلها أيضاً، تتعلم الإنصات إلى ما لا يسمع، والانبهار بجمال ما ليس يُرى.

فما الشعر؟

الشعر طريقة لاستنقاذ العالم من غياهب النسيان بامتلاك الشغف بمخفيات هذا العالم وجنات ما فات الوعي الإنساني. وباهتمامك بمنسيات العالم، تحتفي بهذا العالم وتكرم موجوداته ومخفياته. بالشعر تعطي الخصوصية لما تشاء وتقتنص العالم من قبضة الغياب الطاغية.

هكذا تستطيع القصائد التي تولد لديك الاهتمام والانتباه أن تهز وعيك الغافل تحت طيات اللامبالاة. جرب أن تقرأ قصيدة عظيمة بصوت عال مرة ومرتين وانظر ما الذي يحدث لرؤيتك للعالم. تأمل المفردات والتراكيب والأصوات والإيقاعات والقوافي واستمتع بها، واستكشف الكون من خلال مفردات طالما نظرت إليها فحسبتها جماداً خالياً من الحياة. انظر كيف تتقافز حولك الألوان والأصوات خالية من الحياة. انظر كيف تتشكل أمامك كوينات صغيرة.

يمكن للشعر أن يطلعك على قرارة نفسك، على حقيقتك، على دخيلتك، على سريرتك.

أنت بلا شعر لستك.