كل ترجمان خوان: مقولة عفّى عليها الزمان

 

الترجمان خوان هي الترجمة الأقرب للمثل الإيطالي الشائع سيء الصيت:

Traduttore, traditore: Translator, traitor. 

 

يخيل للكثيرين أن وصم الترجمة بالخيانة جاء نتيجة عدم قدرة المترجم على النقل الدقيق لكلام أو نص من لغة إلى أخرى، لأسباب تتعلق بمحدودية التطابق بين لغتين، أو بكفاءة المترجم أو باللغة المنقول منها أو النص أو ما يتصل بذلك بأسباب.

أي بتعبير دراسات الترجمة، نجمت هذه الوصمة عن الإخفاق في تحويل النص المصدر إلى النص الهدف دون خسارة، هذه الخسارة التي يجمع دارسو الترجمة على حتميتها، والتي تنجم عما يسميه اللسانيون الفجوة المعجمية أو اللغوية.

مثال على هذه الفجوة: المثل الإيطالي ذاته أعلاه الذي يصم المترجم بالخيانة، والذي لا يمكن ترجمته إلى لغة أخرى مع الحفاظ على ما ينطوي عليه من تماثل لفظي مرآوي بين لفظيه. حتى في الإنجليزية خسرت العبارة شيئاً من هذا التناظر الصوتي والشكلي، ناهيك عن العربية واللغات الأخرى. 

إلا أن وصمة الخيانة لم تكن (كما سترى لاحقاً) لم تلحق بالمترجم بسبب هذه الفجوة اللغوية أو الخسارة الحتمية.

لذلك تجد كثيرين، ومعهم الحق، يستهجنون استخدام مفردة الخيانة لوصف هذا التفاوت، ويجدونه جوراً على الترجمة والمترجمين، أو على الأقل مبالغة غير محمودة.

اقترنت الخيانة بالترجمة بالنظر إلى من كانوا يقومون بهذه المهمة ومن احتاجوا خدماتهم في فترة تاريخية معينة.

في كتابه الهام "أسمكة تلك التي في أذنك؟" (الذي لا أظنه مترجماً إلى العربية) يتتبع المترجم الخبير ديفيد بيلوس فكرة "الخيانة" التي التصقت بالترجمة عبر التاريخ. ويجد بيلوس أصلاً لهذه الفكرة في أيام السلطنة العثمانية.

لقد كان السلاطين ورجال حاشيتهم وبلاطهم يرفضون تعلم لغات من كانوا باعتقادهم "كافرين".

لكن مع هذا الجهل بلغات الآخرين "الكافرين"، لم يكن للسلطنة من مناص من التعامل مع أوروبا.

ولم يكن هناك مدارس للترجمة وللغات الأوروبية لدى السلطنة.

لذلك استعان العثمانيون بطائفة من اليونان الكاثوليك كانوا مواطنين في فينيسيا الإيطالية، واستقدموهم ليعيشوا في إسطنبول، هؤلاء كانوا يتقنون لغات عدة. وقد توفرت لهؤلاء حظوة وفيرة لعملهم في الترجمة فآثروا الحياة في إسطنبول. حتى أن بعضهم كان يتمتع بمزايا السفراء لأنهم وحدهم كانوا القادرين على التعامل مع سفارات أوروبا ومبعوثيها إلى السلطنة.

في العام 1821، انتفضت عدة مقاطعات في اليونان على حكم السلطنة العثمانية. وعلى إثر ذلك، أعدم العثمانيون في إسطنبول بتهمة الخيانة ستافراكي ارستاركي، وهو زعيم هذه العائلات التي كانت تعمل في الترجمة، وكانوا يسمون التراجمة.

هؤلاء التراجمة كانوا قبل هذه الحادثة ينظر إليهم بعين الريبة والشك لمجرد عملهم مع السفارات الأوروبية، فكيف ستكون حالهم بعد إعدام كبيرهم وزعيمهم ومعلمهم بالخيانة؟

كانت ممارسة الترجمة بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت.

يرى بيلوس أن فكرة ارتباط الترجمة بالخيانة كما ترد في المقولة الإيطالية التي لطخت الترجمة لقرون، جاءت من أصول عثمانية، وهي تعبر عن توجس العثمانيين من الترجمة (الشر الضروري) وريبتهم بالمترجمين (الأشرار الضروريين) بوصفهم أغياراً، "كفاراً"، عملاء للسفارات الأجنبية.

أي أن هذا الاقتران أمكن بسبب مخاوف السلطنة من المترجمين لا بسبب عمل المترجمين أنفسهم أو ترجماتهم.

كان على هؤلاء التراجمة اليونان أن يسعوا لإرضاء سلاطين وباشوات العثمانيين (مصدر أرزاقهم) بأي وسيلة. وماذا كان لديهم لإرضاء سلاطين وباشوات الدولة العثمانية؟

لقد كان شبح تهمة الخيانة يطاردهم في أعمالهم وأرزاقهم، فكان لا بد من اتخاذ كل وسائل الحيطة والحذر في عملهم للحفاظ على حياتهم وامتيازاتهم وأرزاقهم.

فلا بأس بإضافة بعض الفقرات في ترجمة رسالة مبعوث أوروبي إلى سلاطين وباشوات السلطنة العثمانية، بما يجعل هؤلاء السلاطين والباشوات يشعرون بالعظمة التي اعتادوا عليها.

لا بأس بإضافة ألفاظ التعظيم والتفخيم والتكريم التي كانت سمة بارزة من سمات التخاطب مع رجال السلطنة.

وما الضير حتى في تقويل الملكة إليزابيث ما تعبر به عن امتنانها وخضوعها للسلطان المعظم؟

لقد كان ولاء هؤلاء التراجمة للسلاطين والباشوات، ولم يكن من المعقول وقتها تقديم الولاء والوفاء للنص المصدر/للكاتب/للمتحدث على الولاء الأولى، الولاء الذي كان يودي بناقضه إلى لا شيء إلا التهلكة.

لم تكن فكرة الولاء/الوفاء/الأمانة للنص/المتكلم المصدر واردة من أساسه.

لذلك كان الأوروبيون ينفرون من التعامل مع هؤلاء التراجمة (الأشرار الضروريين)، وتولدت لديهم الريبة في عملهم وأشخاصهم، وهكذا تكون السلطنة وأوروبا اتفقتا على الريبة بالترجمة والمترجمين.

وهكذا وصم كلاهما الترجمة بالخيانة والمترجمين بوصمة الخيانة، مع اختلاف الدافع لدى كل منهما. السلطنة لأنهم أغيار، كاثوليك يونان، يتعاملون مع السفارات الأجنبية، وأوروبا بسفاراتها الأجنبية لأنهم وجدوا أن هؤلاء التراجمة لا يأبهون بالدقة والأمانة والوفاء للنص أو المتحدث المصدر عند نقله، نظراً لأن الولاء الأولى لديهم كان للسلطنة وباشواتها.

وهكذا يقول بيلوس إن هذا الاقتران بين الترجمة والخيانة والذي شاع نتيجة هذا المثل الإيطالي الذي ترجم فيما بعد في أوروبا بلغاتها العديدة لم يكن له في نشأته الأصلية أي علاقة بعمل المترجم ومهنته وممارسته لها من حيث طبيعتها الذاتية.

ملاحظة هامة: لا يتوقف الأمر على ثنائية الخيانة والأمانة. الترجمة مهنة تعاني من وباء هذه الثنائيات (خيانة/أمانة، ترجمة حرفية/غير حرفية، الخ...)، رغم أن دراسات الترجمة منذ زمن بعيد تجاوزت هذه التصنيفات والتقييمات الفارغة.

ليس الترجمان بالخوان ولا الطعان ولا اللعان.

 

المصادر:

أسمكة تلك التي في أذنك؟: ديفيد بيلوس

 

يوسف حسين الحمود

شاعر

ماجستير الترجمة والترجمة الفورية من الجامعة الأمريكية بالشارقة

List blog