جوجل للترجمة والقهقهة

المترجم والوحش: جوجل! لا تكن شريراً

شعار جوجل لمن لا يعرف: لا تكن شريراً. أو لعلّ جوجل أراحت هذا الشعار أخيراً من عذابه الطويل وتخلّت عنه.

تخيل أنه محكوم عليك كل يوم أن تدخل في منافسة ضارية حامية الوطيس كي تكسب بضع لقيمات تقيم بها أودك، ثم يأتي من يقاسمك عليها أو ينتزعها بمخالبه من بين يديك أو يختطفها من فمك.

تخيل أن عليك أن تنافس كل يوم وحشاً ضارياً كاسراً عديم الإحساس معدوم الشعور خال من أي عواطف لكي يمكنك تحصيل لقمة الخبز.

فكيف ستكون حياتك؟

تخيل أن ما تقوم به من عمل لتكسب به حفنة من الدراهم أو الدولارات أو الليرات، هو ذاته العمل الذي يقوم به آخر مقابل لا شيء، أو كما يزعم "حباً بالإنسانية والتواد والتواصل والتراحم ومد جسور التعارف بين البشر".

أي ميزة تنافسية قد تكون لديك عندئذ؟ السرعة، لا شك أنه أسرع منك بما لا يقاس؟ السعر؟ لا شك أن الترجمة مجاناً أرخص كثيراً من الترجمة بمقابل ولو كان هذا المقابل فلوساً.

هذا ما يحدث لك وهذه هي حالك عندما تكون قد علقت للأسف وتورطت في شراك مهنة يسيطر عليها بلا أي منافس ولا أي رادع ما يدعونه "جوجل ترانسليت" (جوجل للترجمة والاستيلاء على أرزاق المترجمين).

قد تقول إنه يمكن مواجهة هذا الوحش الكاسر، بسلاح الجودة، أي جودة الترجمة، فجوجل ترانسليت في نهاية المطاف ترجمة غير بشرية، والبشر أقدر على إجادة الترجمة، فالجودة نقطة لصالحك في صراعك مع هذا الوحش. لكن من يأبه للجودة يا صاح في هذه الأيام العارية عن الجودة؟

مساكين معشر المترجمين.

ورغم السمعة السيئة التي اكتسبها جوجل ترانسليت (جوجل للترجمة والسمعة السيئة) في حقل الترجمة، ورغم الإمتاع والمؤانسة الذي حظي به الجمهور على مدى أعوام طويلة نتيجة ترجماته المضحكة أحياناً حد البكاء (ضحك كالبكا على رأي المتنبي، أو شر البلية ما يضحك على رأي من لا أعرف)، إلا أن جوجل ترانسليت (جوجل للترجمة والضحك) ما يزال مسيطراً مستحوذاً على سوق الترجمة من بابه لمحرابه (إن كان لهذا السوق باب ومحراب).

من أعجب ما صادفني في جوجل ترانسليت ليس المضحك المبكي من ترجماته اللوذعية بل هذا الحذف الذي يرتكبه في النصوص، فيحذف جملة أو عدة كلمات. وهذا شيء عجيب صراحة من آلة أن تختار ألا تترجم كلمات معينة أو تسقط جملاً معينة. يفترض أن الآلة تخطئ لكن لا تحذف.

بعبقرية جوجل ترانسليت (جوجل للترجمة والقهقهة)، تصبح قطعة أرض للبيع مؤامرة للبيع، وصندوق الكهرباء يصبح مجلس الوزراء الكهربائية، أو ترى إعلاناً يقول إن أكل السجادة محظور قطعاً، أو لافتة تقول صالون لصيانة السيدات، أو صالون الشرير للرجال، والكثير الكثير مما لا يحصي حاص ولا يعد عاد.

ويبقى السؤال: لماذا لا تضع جوجل فقط تحذيراً مؤداه أن الاستفادة من الخدمة على مسؤولية المستفيد، ولم لا تعفي نفسها من مسؤولية أخطاء الترجمة (هل عليها مسؤولية أصلاً)، ولم لم يبادر أحد المتضررين (ومؤكد أنهم كثيرون) إلى تقديم شكوى ضد جوجل. ويربح الملايين ويريح الملايين من شر هذا الوحش؟ هل تعلم؟

على سبيل الاقتراح، يمكن لجوجل أن تضع تحذيراً في أعلى صفحة جوجل ترانسليت يقول التالي: "نعلمك أنك باستعمالك هذه الخدمة تجازف بجعل نفسك أضحوكة أمام خلق الله".

 والأمر الأخطر من القهقهات والضحكات التي كان لجوجل ترانسليت الفضل في نشرها على وجوه جماهير الترجمة شرقاً وغرباً، هو ذلك التأثير الضار على اللغة العربية على سبيل المثال. وهذا مبحث طويل لا سبيل للخوض فيه في هذا المقال الخفيف.

لعلك قائل: أليس لجوجل ترانسليت فضائل أو محاسن؟ أليس لهذه الغيمة خيط فضي؟ أليس لهذا الوحش وجه مشرق؟

أكيد يا صاح، مؤكد أنه له جانب طيب وخيّر. لكنه قليل النفع والفائدة مقارنة بأضراره الجسيمة. ولذلك مقال آخر. دعنا نعالج الجانب الشرير من جوجل. وحش جوجل ترانسليت.

لو لم يكن لجوجل ترانسليت سوى إنتاج هذا المحتوى منخفض الجودة المثير للضحك الذي يصل حد القهقهة لكان فرضاً على كل حريص على لغته العمل على إراحة خلق الله منه.

سؤال: أما من نافذ الأمر غيور على لغة هذه الأمة يبادر إلى إطلاق حملة لمطالبة جوجل بقتل جوجل ترانسليت وإراحة البلاد والعباد من شره المستطير؟

إلى جانب كل ما تقدم من شر وضحكات، لجوجل ترانسليت الجانب الأكثر سوءاً. وهذا الجانب هو ما يتعلق بمحاربة المترجمين في رزقهم، وفي قوت عيالهم (لا بأس هنا في بعض الموسيقى التصويرية على مقام الصبا). لا مبالغة على الإطلاق في القول إن جوجل سرقت رغيف المترجم.

لم يعد المترجمين يجدون عملاً إلا بأرخص الأسعار (إن وجد)، بأسعار أقل ما يقال فيها إنها مهينة للمهنة، ولا تلبي شروط العمل الكريم. فماذا يعني أن يعمل مترجم ساعة كاملة مثلاً لكي يحصل على عشرين درهماً، لا تقيم أود عصفور؟

مساكين أنتم معشر المترجمين. جدوا عملاً آخر.

ما أزال أذكر حجم العمل الذي كان للمترجم الحصول عليه يومياً في دبي مثلاً قبل ولادة هذا الوحش الكاسر، وحش الترجمة والقهقهة؟

ماذا تسمي هذا الطغيان لاستخدام جوجل ترانسليت؟

جوجل ترانسليت دكتاتور الترجمة، وينبغي على المترجمين التخلص من هذا الطاغية، بالقوة إن تطلب الأمر.

في المقلب الآخر، لا شك أن الكثيرين من المترجمين يستخدمون جوجل ترانسليت ويستفيدون منه. لكن فائدة المترجم من جوجل ترانسليت ليست شيئاً يذكر بالمقارنة بالضرر الذي لحق بهذا المترجم، بالنظر إلى حجم العمل الذي كان سيحصل عليه المترجم لو لم تخلق جوجل هذا المسخ المدعو جوجل ترانسليت. وانخفاض حصة المترجم من الترجمة ستؤدي تبعاً إلى انخفاض رسوم الترجمة، لا ريب، الظاهرة التي لا تخفى على أحد في سوق الترجمة الآن. حشف وسوء كيلة.

ولعلك سائلني: إذا كان جوجل ترانسليت بهذا السوء فلماذا هو بهذا الانتشار؟

إنها قوة المجّان، إغراء "البلاش" يا صاحبي. لا أحد يريد أن يدفع فلساً ولو مقابل صفحة ترجمة. بولادة هذا المسخ، لم يعد أحد يرى الترجمة مهنة وعملاً يستحق الدفع مقابله، ولم يعد أحد يراها خدمة لا يستغنى عن صاحبها. الكل يريد أن ينهش هذا المسكين الحزين، ويستقطع ثرواته من أجره النزر الضئيل. وأول هذه القافلة من السراق النهاب قاطعي الطريق جوجل ترانسليت، ولو كان يقدم خدمة مجانية.

تكمن المفارقة أيضاً في أن جزءاً من الفضل في تطور إمكانات جوجل ترانسليت يعود للمترجمين أنفسهم (الذين ينازعهم جوجل لقمة عيشهم)، من خلال مساهماتهم في هذه المنصة الخائبة المسعى إن شاء الله.

ولا حاجة للقول إن تطور جودة الترجمة لدى جوجل ترانسليت ستساهم أكثر في إفقار المترجمين.

فمن يدفع لمترجم إذا كان يحصل بالمجان على خدمته عن طريق جوجل (لا تكن شريراً، قال).

لكن أين الضرر المؤكد الملموس الذي يلحق بالمترجمين من جوجل للترجمة؟

خلك معي.

تزعم جوجل، حسب تصريح لأحد موظفيها الكبار، أن عدد المستفيدين من خدمتها للترجمة (والقهقهة) يزيد على 500 مليون مستخدم شهرياً.

وتزعم جوجل أنها بهذه المنصة (الخائبة المسعى إن شاء الله) تترجم 100 مليار كلمة يومياً. ويضيف مسؤولها أن هذا الحجم من الترجمة لو أردت أن تترجمه مستفيداً من خدمات كل المترجمين (البشر) الأحياء المحترفين على كوكب الأرض، لاحتجت إلى عام كامل.

الخلاصة: يترجم جوجل ترانسليت يومياً ما يحتاج كل مترجمي العالم البشر إلى عام كامل من أجل ترجمته.

جوجل ترانسليت مقابل كل مترجمي العالم. ويوم مقابل عام.

و لو صدقنا أرقام جوجل (ولا شيء يدعو لعدم تصديقها)، لكان عدد المترجمين في العالم اليوم 100 ألف مترجم، على اعتبار أن كل مترجم يترجم 3000 كلمة يومياً.

إذن لو تخلصنا من جوجل ترانسليت بقدرة قادر، فكل مترجم بشر حيّ سيكون لديه عمل ترجمي يزيد على 1 مليون كلمة. حسبة بسيطة. عدد الكلمات التي يترجمها جوجل ترانسليت يومياً مقسوماً على عدد المترجمين.

وكما تعلم، قبل ولادة هذا الوحش كان المترجم البشري هو المترجم الوحيد على ظهر هذه الكرة.

لو كان من الواجب الضروري واللازم اللازب ترجمة 1% فقط من الكمية المذكورة أعلاه، لتوافر لكل مترجم بشري حي عمل يزيد على 10000 كلمة يومياً، وهكذا يتقاضى كل مترجم 2000 دولار يومياً على اعتبار رسوم ترجمة 0.2 دولار للكلمة. وهذا سعر عال نسبياً (ستكون رسوم الترجمة عالية بالتأكيد لماذا؟ لقلة عدد المترجمين وضخامة سوق الترجمة).

إذن. إذا كنت مترجماً ولا تجد عملاً تقتات منه، فالآن أصبحت تعرف من غريمك.

إنه جوجل ترانسليت. سارق أرزاق المترجمين.

ربما ينبغي أن نرفع شعار "يا مترجمي العالم اتحدوا" للتخلص من هذا الوحش.

جوجل! لا تكن شريراً. كن لطيفاً واقتل هذا الوحش.

 

 

List blog

Pages